کد مطلب:309783 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:277

القسمت 20


مضت خمسة أعوام علی هجرة النبی... والمدینة ما تزال تنعم ببركات السماء.. تبنی و تزرع و تنتج و تقدم إلی العالم الكلمة الطیبة ولكن قریشاً والیهود یفكرون باجتثاث شجرة غرستها السماء لیعود الناس القهقری إلی زمان لا عودة الیه..

دخل فصل الشتاء.. و ریاح باردة تهب من ناحیة الشمال، الغیوم تتجمع فی السماء.. ثم سرعان ما تتبدد.. تاركة الأرض عطشی و الزروع أیدی متضرعة تنشد المطر، العواصف تشتد یوماً بعد آخر و لا قطرة مطر...

وهناك ریاح اُخری.. ریاح جاهلیة تهب من ناحیة الجنوب.. قریش تعد العدة لغزو المدینة.. و السامری الذی حطّ رحلة فی خیبر یخطط لإطفاء النور فی جزیرة العرب. اشتعلت فی القبائل حمی السلب و النهب... و یثرب لقمة دسمة.. و كذلك سول لهم السامریّ..

دقّت طبول الحرب بین مضارب القبائل و سیوف الغدر تشحذ، تومض فی بطون نجد وكنانة و قریش تطرب علی رقصة الحرب و هند تلوك كبد حمزة، و أبوسفیان یحلم بالمجد.. یهتف: اعل هبل.

ریاح الشتاء ما تزال تعصف بالمدینة و الغیوم تعبر السماء كسفن تائهة، حل شهر رمضان، القی رحله فی الجزیرة غریباً لا یعرفه أحد إلّا فی أرض طیبة..

صامت یثرب للَّه.. امتنع أهلها عن الأكل و الشرب.. وصامت جوارحهم... و المعدة توقفت عن الانبساط و التقلّص.. فانتفض القلب یخفق بقوّة.. واستیقظ العقل من سباته متوتراً.. یری ما لا تراه العیون.. و یدرك ما لا تدركه الأبصار...

جاء رمضان یعلّم الإنسان كیف یجوع فینتصر. كیف یظمأ لتولد إرادته.. كیف یهزم الوحش القابع فی داخله لینتصر الإنسان المضطهد فی الأعماق.. رمضان نهرٌ یجری.. تتدافع أمواجه برفق. یغسل القلوب من الدرن.. یعیدها بیضاء بیضاء كحمائم بریّة تطیر فی الفضاء.. خفیفة حرّة تسبح فی ملكوت اللَّه.

الریاح الباردة ما تزال تهب من ناحیة الشمال... و الغیوم ما تزال تفرّ مذعورة باتجاه الجنوب... و لا قطرة مطر والعام عام جفاف... والرسول یشد علی بطنه حجر المجاعة، و یصغی إلی انباء تأتی من


ناحیة الصحراء

- انهم عشرة آلاف مقاتل.. قبائل غطفان و قریش و كنانة.. و قد نقض «بنوقریظة» العهد و هم داخل المدینة.. ألف خنجر فی خاصرة یثرب.

- و هناك أعداء موجودون بیننا لا نعلمهم. اللَّه یعلمهم.

- كفانا اللَّه شرّ المنافقین.

- یثرب فی خطر.

- انهم یزحفون باتجاه المدینة من فوقنا و من أسفل منّا.

- لا تنسوا اللَّه فینساكم.. و اذكروه یذكركم و یثبّت أقدامكم.

وفی المسجد كاد الیأس یعصف بالقلوب المؤمنة والقلق یزعزع شجرة غرسها النبی لتؤتی اُكلها كل حین بإذن ربِّها.

وبعد حیرة و وجوم نهض رجل من أهل فارس.. یلوح بطوق نجاة لیثرب فالطوفان قادم:

- یا رسول اللَّه إنا كنا بأرض فارس اذا خفنا العدو خندقنا.

فكرة لم تكن العرب لتعرفها. هتف الأنصار:

- سلمان منا.

وردّد المهاجرون:

- سلمان منّا.


و تنازع الفریقان رجلاً جاب الأرض بحثاً عن رجل یدعی محمد.

هتف النبیّ و قد رنت الیه العیون:

- سلمان منّا أهل البیت.

ریاح الشتاء تعصف بعنف... و العام جفاف و البطون خاویة.. ولكن الإرادة التی ایقظها رمضان تكاد تلوی التاریخ...

من الشمال ستهب عاصفة الأحزاب. ضرب النبی الأرض بمعول من حدید و ببأس شدید؛ وهوت المعاول تفتت الأرض علی طول خمسة آلاف ذراع و عرض تسعه أذرع و عمق سبعة أذرع.

ومرت الأیام و الریاح ما تزال تهبّ شدیدة البرودة و الأجساد تذوی لاتجد ما یسدّ رمقها.. ولكن الإرادة كانت تشتدّ.. تفتت الصخور و تغوص فی أعماق الأرض، فأسراب الجراد قادمة.. ترید أن تحیل كل ما هو أخضر إلی یباب لاشی ء فیه إلّا سراب یحسبه الظمآن ماء.

جلس النبی لیستریح قلیلاً... جفف حبات عرق كانت تتألّق فوق جبینه وبدا معوله قطعة نادرة أو كنزاً منحته الأرض... شدّ حجر المجاعة إلی بطنه أكثر.. ثلاثة أیام تمر و هو لا یجد شیئاً یطعمه.

لم یذكره أحد.. الجوع و البرد و الاعیاء هواجس الصحراء تنسی المرء أقرب الأشیاء الیه ولكن فاطمة لم تنس الرجل الذی


اختارته السماء رسولاً إلی الأرض المنكوبة.

الرجل الذی اكتسبت یثرب مجدها به جائع.. یشد حجر المجاعة إلی بطنه لایجد شیئاً یأكله حتی ذكرته فاطمة علی حین غفلة من أهل یثرب.

غابت الشمس، وفاحت رائحة الخبز فی فضاء المدینة و توهجت المواقد فی البیوت تمنح الصائمین الدف ء و الشبع.. و النبی فی خندقه یصلّی للَّه:

- ربِّ انی لما أنزلت إلیَّ من خیرٍ فقیر.

وجاءت فاطمة من بعید تحمل الیه قلبها و خبزاً انضجته قبل قلیل.

شاعت البهجة فی وجه النبیّ.. بهجة تشبه بهجة الحواریین یوم نزلت الیهم مائدة من السماء.

و فاطمة حوراء أنسیة جاءت تحمل له الخبز والدف ء والشبع. تمتم النبی:

- واللَّه ما دخل جوفی طعام من ثلاث.

عادت فاطمة إلی منزلها... تكفكف دموعها.. تبكی الرجل الذی حمل مشعل السماء إلی الأرض یرید له أن یبقی مضیئاً بوجه العاصفة القادمة.